مقطع من رواية “على تخوم الوجع” للكاتبة جمانة طه/ سوريا.

  مطر يتساقط خفيفًا يرقش نافذتي عقودًا من لآلىء، وأنا أكتب إليك مع يقيني بأني لن أحظى بجواب على بوحي. أتساءل كيف حالكِ حيث أنت، وماذا تفعلين؟ كم أتمنى لو أننا في دمشق، ونشرب القهوة معًا مرة ثانية. البارحة منعني من النوم، هياج مريضة مغتصبة. أتعبتنا مقاومتها، وبعد جهد من طبيب صحة ومني استطعنا أن نهدىء قليلًا من روعها ونعيدها إلى سريرها، في حين ظلّ النوم مجافيًا عينيّ. الزمن في العمل يمضي بسرعة، بكل ما فيه من تفاصيل موجعة. أما في أيامي الخاصة، فيمر بطيئًا وثقيل الوطأة. لو ترين الأطفال وما هم فيه من قهر وضياع، لتصدع قلبك حزنًا عليهم. إنهم يعانون من اضطرابات حادة نفسية وعصبية، بفعل ما مورس عليهم من جوع وتشريد وما شاهدوه من قتل ودمار. التركيز عندهم ضعيف والغضب سريع، والخوف يجعلهم يرتجفون ويتشنجون ويشعرون بالغثيان. أريدك أن تعرفي يا خولة كم أنا ممتن لك، فالتواصل معك قدم لي عونًا نفسيًا وأنقذني من هواجس متعبة. يطرأ على خاطري ما قاله ابن رشد من أن الروح قسمان: قسم شخصي، وقسم فيه شيء من الألوهة. الجانب الشخصي من الروح قابل للفناء، أما الجانب الآخر فهو مستمر في كل إنسان وبمستوى واحد. أرأيتِ، كيف يجمعنا ابن رشد روحيًا.؟ رسالة وصلتني من مريد، أثقلت روحي وأجهدت منامي.

   حدثت معي أمور كثيرة في الأيام الماضية، منعتني من الكتابة لكِ برغم أنك لم تردي على رسالتي الأخيرة. وقبل أن أسترسل في الحديث عن عملي، سأبدأ بالقول إنك غالية جدًا على نفسي. فكلما امتدت الأيام، يزداد إحساسي بك قوة. العمل في المركز كثير جدًا وموجع جدًا، لكنني سعيد بوجودي فيه لأنه لي تجربة جديدة تضاف إلى مسيرتي العلمية والعملية. أحمد الله أنك لست هنا، فلن تحتملي الاستماع إلى حكايات المرضى وما تعرضوا له من وحشية يصعب التصديق أنها صدرت عن بشر. تواصلي مع هؤلاء المنهكين نفسيًا والمتشظين روحيًا ومساعدتهم في التوصل إلى شيء من الطمأنية والهدوء النفسي، يمنحني شعورًا بالراحة والأمل بأن شفاءهم ممكن. روحي قلقة ومزاجي معتكر، بسبب منام أتأني أكثر من مرة. رأيتني أسبح في بحر هائج، ومياهه تكاد تبتلعني. من غير المناسب أن أحدثك عن هذا، لكني لا أستطيع منع نفسي. ربما لمعرفتي أنك تهتمين لأمري، وربما لأني أحتاج كلماتك الداعمة وحضور روحك معي. – العزيز مريد. يسعدني أن أشاركك بعض همومك، بقدر ما يحزنني ما تمرّ به. سطورُكَ حملت لي قلقًا يقارب اليأس، لم أعهده فيك من قبل. أخجل من قولي إن في الحياة مطبات عديدة ومتعددة الأشكال، لكن دافعي هو إيماني بأن تذكير الأصدقاء بما يعرفونه يفيد. أتمنى عليك يا مريد أن تنسى المنام، الذي ليس هو غير انعكاس لعملك مع عينات بشرية مُنهَكَة. اقرأ في كتاب يسليك ويبهجك، تناول كوبًا من شراب البابونج الدافىء قبل النوم وستكون بخير.
 
  مرّت ساعات طويلة وأنا فيها على ارتحال طائر، من مكان إلى مكان آخر. عندما حطت قدماي في البيت، فتحت النت فطالعتني رسالة من مريد. “زارتني ليلة أمس رعشة باردة، ترافقت مع حرارة مرتفعة وألم في الحلق. وصف لي الطبيب مضادًا حيويًا، مع خافض للحرارة. التحسن بطيء، والحرارة ما زالت مرتفعة. اغفري لي أنانيتي، فأنا أبثك شكوتي من وجعي وأنت في طائرة فوق السحاب. الحديث معك صوتًا وكتابة يريحني، ويمنحني شعورًا بأني لست وحيدًا. من حسن حظي أنه لا سبيل لك إلى رؤيتي أو لسماع صوتي، وأنا في هذا الوهن الشديد. الجميع هنا يحيطونني برعايتهم ومحبتهم، ولا يعلمون أن حبّك هو ما أتمناه ووجودك هو ما أسعى إليه. وردة وعطرها لروحك الجميلة”.
 
  في الصباح اتصلت بمريد للاطمئنان عليه، فلم يصلني رد. خامرني قلق على صحته، ولاسيما أنه كان يشكو من بردية وارتفاع حروري. كتبت له على الخاص أعلمه بوصولي وباتصالي، ولا جواب. في المساء وأنا أتابع ما تبثه إحدى القنوات العربية، قرأت على شريط أسفل الشاشة خبرًا عن صاروخ سقط على مركز طبي في بلدة تقع على الحدود السورية التركية، دمَّرَ قسمًا كبيرًا منه وقضى على عدد من المرضى والعاملين فيه.
 
  رحل مريد..
نافذة الورد أُغلقت، وغابت رسائلها الماتعة. رحيله، ردني إلى مربع قاحل فكريًا وحزين إنسانيًا. عدت إلى بعض رسائله، فوجدتها حيّة نديّة وكأنه انتهى من كتابتها اللحظة. إحساس خامرني وأنا أقرؤها أن روحه تحوم حولي، وصوته الدافىء يرن في أذني بلهجته العراقية المحببة. في مرحلة سابقة من حياتي رافقني الموت في تفاصيل يومي، وبكثير من الجهد والتصميم استطعت أن أسيطر على حضوره. وفاة مريد أخرجته عن سيطرتي لينتصب ماردًا يشل تفكيري ويصغر أمامه صبري، فمن أقسى لحظات العمر أن نفقد بالموت صديقًا حميمًا. بكيت “مريد” بكاءَ من فقد جزءًا من نفسه.
 
  لا يخطر على ذهني ما أواسي نفسي به، على غيابك يا مريد. غير أني لن أنسى كم كنت محبًا لوطنك وحزينًا لبعدك عنه. سادرة أرقب نزيف الأرواح والعقول في وطني الذي يضيع في وحل مفاوضات المنصات، وضبابية مواقف منظمة الأمم المتحدة. كما عراقك يا مريد، يضيع في داعشية طائفية مع أنه على قول ولاته قد تحرر من تنظيم داعش. نحن شعوب مساكين يا مريد، قدمنا كل ما نملكه لحكامنا وما اكتفوا. أخذوا أولادنا إلى الموت وقلنا في سبيل الوطن، هجّرونا من خلال القتل، وقلنا علينا تقبل ذلك مادام الهدف تحريرنا من الإرهاب. سلطوا علينا الغلاء وقالوا على قَدّ بساطكم مدّوا أرجلكم، فقلنا الظروف قاهرة وعلينا أن نصبر. طلبوا كرامتنا فسفحناها أمامهم، وقلنا الذُلّ ولا الموت. قدمنا وقدمنا، حتى لم يعد لدينا ما نقدمه. فالبساط اهترأ والغلاء التهم الأرجل، والوطن يكاد أن يغيب في وحول الفساد والتشبيح.
رحلت يا مريد، وفي قلبك غصة على عراق محتل. تركته إلى دمشق هربًا من قتل مؤكد، لكنك لم تنعم فيها بما كنت تؤمله. ذهبت إلى تركيا بحثًا عن الراحة والعيش الكريم، فأدركتك المنية هناك. بعد غيابك لم يتغير شيء في العراق، فما توافقنا على رفضه ما يزال مستمرًا وبشكل أشد مرارة وأكثر سوءًا. فالطغاة موجودون وبأسمائهم التي تعرفها، والساكتون على طغيانهم أيضًا موجودون. وكل ما نحن فيه، كما كنت تقول، بسبب غبائنا وتخاذلنا عن توحيد مواقفنا وأهدافنا.
  يقول محمود درويش: ستنتهي الحربُ ويتصافحُ القادةُ وتبقى تلكَ العجوزُ تنتظرُ ولدَهَا الشهيد وتلكَ الفتاةُ تنتظرُ زوجَها الحبيب وَأُولائكَ الأطفالُ ينتظرونَ والدَهُمُ البطل، لا أعلمُ مَنْ باعَ الوطنْ ولكنني رأيتُ مَنْ دفعَ الثَّمنْ……..

 

 

أضف تعليق